الدعايةُ ودورُها في الحرب النفسيةالدعاية: ترويجُ معلومات وآراء منتخبة وَفق تخطيطٍ معين
بقَصْد التأثير في عقول وأعمال مجموعة معينة من البشر لغرض معين؛ قد يكون
عسكريًا أو اقتصاديًا، وهي إحدى أسلحة الحرب النفسية الفتاكة التي فرضت
نفسها في الحرب الحديثة أكثر من أي وقت مضى، مما حفز الدول على التفنُّن
في كيفية استخدامها لتحقيق أعظم فائدة منها، ولا يقتصر استخدامُ الدعاية
على وقت الحرب فقط، بل يشمل وقت السلم أيضاً.
وغنيّ عن البيان أن
الإنسانية قد استعانت منذ أقدم العصور بكثير من الوسائل التي تندرج اليوم
فيما نسميه بحرب الدعاية، وقد تطورت هذه الوسائلُ حتى بلغت في قرننا
الحالي ذروة ما يمكن أن تكون عليه.
ولم تعد الدعاية تقتصر
على المقاتلين في المعركة؛ تدفعُهم عن المقاتلة إلى الاستسلام، وتقنعهم
بالهزيمة المؤكدة، بل ولم تعد الدعاية تقتنع -بالإضافة إلى ما سبق- بسكان
الأراضي المحتلة؛ تكسبهم لقضيتها، وتخلق منهم الأعوان والأنصار، مباعِدةً
بينهم وبين أعمال التخريب والتدمير، وإنما اضطلعت الدعاية أيضا بمهمة
أخرى، فأخذت تهيئ من أمر السكان وتكسبهم لقضيتها، سواء قبل الحرب أو إبّان
القتال، لذا نرى الدعاية متنوعة؛ فالدعاية التكتيكية تستهدف هدفاً
مباشراً، وهي سلاح يتعاون مع سائر الأسلحة الأخرى، كإلقاء المنشورات
بالمدافع، واستخدام مكبرات الصوت، وإشاعة الأخبار السيئة عن مؤخرة عدوّه
(مثلما كان عليه استخدام مكبرات الصوت في معركة (ديان بيان فو) في الهند
الصينية).
أما الدعاية
الاستراتيجيةُ فتتميز ببُعد مرماها، ويتلخص عملُها في التمهيد لعمل
الدعاية التكتيكية، في حين تستعمل الدعاية التعزيزية ما استطاعت لكسب
المحتلين بإقناعهم بأن الهزيمة هي النهاية، وأن كل مقاومة ينكرها المنطق.
فالخير أن يتعاون الجميع مع السلطة لتحقيق الرفاهية.
وهناك
الدعاية المضادة التي تستهدف تفنيد فكر العدو أو أسلوبه، كالدعاية التي
أطلقها اليابانيون متهمين الأمريكان بالهمجية عندما كانت أجهزةُ الدعاية
تتحدث عن همجية اليابانيين.
حيل الدعاية السوداء:
من أساليب الدعاية السوداء
أنها تستخدم الشعارات والكلمات الرنانة مثل الدكتاتور والسفّاح، كذلك
استعمال المترادفات السلبية بدلاً من تسمية الأشياء بمسمياتها؛ مثل: كلمة
(الفراعنة) بدل (المصريين)، والتهويل والتشويش مثل استغلال الصور الموضحة،
كالرسم الكاريكاتيري كدعاية ضد الأمريكان في أثناء الحرب الكورية. غير أن
الدعاية مهما كان لها من تأثير فلها قيودٌ تَحُد من قيمتها، لذا يجب أن
يستغل القائم بالدعاية الاستعداد النفسي للمجموعة التي يوجه إليها دعايته،
وقد يتمكن من الحصول على بعض النتائج، غير أنه يخفق في الوصول إلى هدفه
لإثارة نزعات متعارضة؛ فكثير من الفرنسيين كانوا يخافون الاستجابةَ لدعاية
الحلفاء في الاشتراك الفعلي خوفًا من بطش الألمان.
وقد يخطئ القائم
بالدعاية في تقدير من يوجه لهم دعايته، فيحصل على نتائج مضادة لما يهدف
إليه، ومن الأمثلة على ذلك: في بداية الحرب العالمية الثانية حين عسكرت
الجيوشُ الفرنسية أمام خط سيجفريد، أذاع الألمان في مكبرات الصوت للجنود
الفرنسيين أن الإنجليز قد نزلوا بشمال فرنسا، وأخذوا في هتك عرض النساء
الفرنسيات تاركين أزواجهن في الميدان، فقوبلت القصة بسخرية وفكاهة؛ لأن
الألمان كانوا يجهلون التعصب الإقليمي للفرنسيين، وكان معظم الجنود من أهل
الجنوب.
ومن الأخطاء التي تحدث
من أثر الدعاية طولُ الوقت، ومن الأمثلة على ذلك أن الألمان ظلوا مدة
طويلة يقومون بالدعاية ضد الروس على أنهم أعدى أعدائهم. فلما تمت معاهدة
عدم الاعتداء بين الألمان والروس عام 1939م غيّر الألمان من دعايتهم. فلما
عادوا وهاجموا روسيا بعد ذلك كان من الصعب عليهم إقناعُ الشعب ثانية بأن
الروس أشرار.
واتجهت الحربُ
الدعائية إلى الفكاهة والبرامج الساخرة والنكت التي تمس الحكم والنظام
السياسي والاقتصادي وبعض جوانب الحياة واستغلال ميل الشعب إلى الفكاهة في
ترديد ونقل النكت التي تركت أثرًا بالغَ السوء على روح القتال لدى
الأفراد، ولقد لوحظ خطورةُ هذا في أعقاب حرب يونيو 1967م حين بدأت النكت
التي تركت أثرًا بالغ السوء على روح القتال لدى الأفراد.
ولكن
الله سلّم حين أدرك الشعبُ خطورة الموضوع، وقضى تماما على هذه الموجة، ولم
تظهر للنكتة آثار كسلاح من أسلحة الحرب النفسية في معركة أكتوبر عام 1973م.
كما اتجهت الحرب
الدعائية إلى سلاح الغرائز الجنسية أيضا لاجتذاب الآخريين إلى الدعاية
المسمومة، وكان اليابانيون يلقون المنشورات على الجنود الإنكليز وقد رسم
على الوجه الآخر منها تصاوير فتيات عاريات.
ومن أنواع الشائعات:
الشائعات الزاحفة: وهي التي تروج ببطء وبطريقة سرية.
والشائعة الغامضة: وهي التي تروج ثم تغوص تحت السطح لتظهر مرة أخرى عندما تتهيأ لها الظروف.
والشائعة الهجومية: وهذه توجه ضد العدو.
وشائعة الخوف:
التي تستهدف إثارة القلق في نفوس السكان؛ كالإشاعة التي روّجها الألمان في
إنكلترا بأن الغواصات الألمانية سوف تحطم أساطيل الحلفاء، وأن إنكلترا
ستستسلم من جراء الحصار الاقتصادي المفروض عليها.
أما إشاعة الأمل:
فإنها تستند على عوامل مغايرة تماماً لإشاعة الخوف التي يهدف فيها ناشروها
إلى تكوين حقيقة، كالإشاعة التي راجت خلال الحرب العالمية الأولى من حملة
على بولندا حول دحر البولنديين الهجومَ الألماني .
وتستهدف إشاعة الحقد وإرباك
الرأي العام وخلق حالة من الاضطراب ممزوجة بالكراهية أمام صفوف العدو
لعرقلة سير الحرب ومن ثم كفاحه، كإشاعة الألمان ومفادها: أن بريطانيا رفضت
إدخال أبنائها في القتال واكتفت بأبناء المستعمرات في حين يقدم الأمريكان
زهرة شبابهم.
وأسلوب التهديد
واستعراض العضلات يدخل تحت هذا النوع من الإشاعات، مثل الضغوط الأمريكية
الصهيونية التي تلوح بين حين وآخر بالتدخل في شؤون الشرق الأوسط، وخاصة
الدول العربية المصدرة للنفط، وتشير إلى تغيير بعض أنظمة الدول العربية،
والتهديد باحتلال جنوب لبنان وسوريا، وغير ذلك، والإشاعات المتواترة التي
يطلقها الأعداء ضد وطننا العربي والحكومات الثورية.
ويجب أن لا يعزب عن البال أن الإشاعة سلاح المتضررين والمحتكرين والعملاء والرجعيين داخل الأوطان المتحررة.
تأثير الإشاعة:
الإشاعة ركنٌ أساسي في
الحرب النفسية، فهي وسيلة فعالة لإحداث البلبلة في الحرب والسلم، والبلبلة
مفتاح تغيير الاتجاهات وزعزعة أمن الحكم وهز الإيمان بالوطن والوحدة
والثبات.
وترويج الإشاعة وحبكها وتوقيتها يحتاج إلى الدقة في الصنع والصياغة بحيث تصبح مستساغة قابلة للبلع والهضم، ومن ثم الانتشار.
من أصول بث الإشاعة
الناجحة أن تكون بشكل خبر أو رواية مختصرة ونافذة وملائمة لاحتلال جزء من
تفكير المواطن العادي لتتمكن من تحوير فكره واتجاهه، كما يجب بث الإشاعة
في ظرف الغموض والالتباس، فالغموض يولد الشك، ويؤثر في الرأي العام،
ويستحسن أن يكون الناس في حالة من التوجس والخوف من حدوث شيء ما.
فإذا ما ظهرت الإشاعة
تبلورت حولها الهواجسُ، وتحول التوجس إلى خوف حقيقي، وهذا هو المقصود
بالحرب النفسية. ويقصد بالإشاعة القصص والأخبار غير المؤيدة التي تتداولها
الألسن، وهي غالباً ما تجد آذانا صاغية وميلاً قوياً لتقبلها كحقيقة واقعة.
أما تأثيرها في نفوس المستمعين وقبولهم إياها فيتوقف على مقدار وعيهم ودرجة استعدادهم النفسي.
وهي عادة تجري في جسد الشعب الضعيف.
ويستهدف من بث
الإشاعات تحطيم معنويات الشعب بإثارة موجة الرعب والخوف في نفوس السكان
لأجل تصديع الجبهة الداخلية، وكذلك في زعزعة معنويات القوات المسلحة وخلق
نوع من فِقدان الثقة بينها وبين قيادتها لغرض إحلال روح التمرد وانحطاط
الضبط، وبذا يمكن التغلب عليها. وهذا ما تمارسه إسرائيل حاليا بمخططات
إشاعة مدروسة موجهة إلى جميع الجيوش العربية، إضافة إلى تحطيم الروابط بين
الدول المتحالفة والصديقة.
دور وسائل الأعلام في توعية المواطن ضد الإشاعات:
يجب أن تتكفلَ وسائلُ
الإعلام المختلفة بعرض الحقائق في وقتها، وإشاعة النقد بين المواطنين،
وتنمية الوعي العام، والتحصين من الحساسية النفسية عامة، ومن الشائعات
خاصة، وكذلك التوعية المستمرة لتثبيت الإيمان والثقة بالبلاغات الرسمية عن
طريق الندوات والمحاضرات والمناقشات.
ومن أجل مقاومة
الشائعات والسيطرة عليها، يجب اقتفاء خط سير الشائعات، والوصول إلى
جذورها، وإصدار البيانات الصحيحة الصريحة، والتخطيط الشامل، وتكاثف
الجهود، إضافة إلى الثقة بالقادة والرؤساء، والثقة بأن الأمور العسكرية
تحاط دائما بالسرية والكتمان، والثقة بأن العدو يحاول خلق الشائعات عندما
لا تتيسر له الحقائق، وتولية الأمر والقيادة لأهل الع