الحمد لله رب العالمين ،
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ،
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ،
اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً
و أرنا الحق حقاً و ارزقنا إتباعه ،
و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه
واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ،
و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين
يا أرحم الراحمين
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها ، ما من شيء يحتاجه
البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً ، عَلِمه مَنْ عَلِمه ، وجهله من جهله .
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعوهم تلاوة وحفظاً
وفهماً وتدبراً وعملاً . وعلى ذلك سار سائر السلف . ومع ضعف الأمة في
عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر عند غالب
المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه ومراداته ،
وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك ، ( وقد أنزل الله القرآن وأمرنا
بتدبره ، وتكفل لنا بحفظه ، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره ) [1] .
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده ؛ ففي ذلك أجر كبير ؛
لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر . ومن
ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى - .
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب والسنة
وسيرة السلف الصالح .
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم : ( تحديق ناظر القلب إلى معانيه ، وجمع
الفكر على تدبره وتعقله ) [2] .
وقيل في معناه : ( هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه
البعيدة ) [3] .
أولاً : منزلة التدبر في القرآن الكريم :
1- قال الله - تعالى - : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب " ص : 29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس
من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
قال الحسن البصري : ( والله ! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى
إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل ) [4] .
2- قال - تعالى - :: أفلا يتدبرون القرآن .... " النساء : 82] .
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن
الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة : أفلا يتدبرون
القرآن ) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب .
3- قال - تعالى - : " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك
يؤمنون به"[البقرة : 121] .
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال : ( والذي نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن
يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ) [6] .
وقال الشوكاني : ( يتلونه : يعملون بما فيه ) [7] ولا يكون العمل به إلا بعد
العلم والتدبر .
4 - قال - تعالى - : " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم
إلا يظنون " [البقرة : 78] .
قال الشوكاني : ( وقيل : (الأماني : التلاوة) أي : لا علم لهم إلا مجرد التلاوة
دون تفهم وتدبر ) [8] ، وقال ابن القيم : ( ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا
يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني ) [9] .
5 - قال الله - تعالى - : " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا" [الفرقان : 30] .
قال ابن كثير : ( وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ) [10] .
وقال ابن القيم : ( هجر القرآن أنواع ... الرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة
ما أراد المتكلم به منه ) [11] .
ثانياً : ما ورد في السنة في مسألة التدبر :
1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن
عنده ) [12] .
فالسكينة والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر .
أما واقعنا فهو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه - : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ) [13] .
فهذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ .
3 - عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها : " إن تعذبهم فإنهم عبادك
وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ) [المائدة : 118] [14] .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم التدبر على كثرة التلاوة ، فيقرأ آية
واحدة فقط في ليلة كاملة .
4 - عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ) [15] .
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم الصحابة القرآن : تلازم
العلم والمعنى والعمل ؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق والعمل به .
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم في
قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال : ( لا يفقه من قرأ القرآن في
أقل من ثلاث ) [16] .
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود بتلاوته لا مجرد التلاوة .
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ( أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال : يا فلان ! هل أسقطت
في هذه السورة من شيء ؟ قال : لا أدري . ثم سأل آخر واثنين وثلاثة كلهم يقول :
لا أدري ، حتى قال : ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما يدرون ما تلي منه مما
ترك ؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت أبدانهم وغابت
قلوبهم ؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه ) .
ثالثاً : ما ورد عن السلف في مسألة التدبر :
1 - روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال : ( تعلم عمر البقرة في اثنتي
عشرة سنة ، فلما ختمها نحر جزوراً ) [17] .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن ؛ فما بقي إلا أنه
التدبر .
2 - عن ابن عباس قال : ( قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل عن الناس
فقال : يا أمير المؤمنين ! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا ، فقلت : والله ما أحب أن
يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة . قال : فزبرني عمر ، ثم قال : مه !
فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني ، فقال : ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً ؟ قلت : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا : كلٌ يقول الحق عندي -
ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى اختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ، فقال
عمر : لله أبوك ! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها ) [18] ، وقد وقع ما خشي
منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن ؛ لكنه لا يجاوز تراقيهم .
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان الفاضل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة
ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن ، منهم الصبي
والأعمى ولا يرزقون العمل به . وفي هذا المعنى قال ابن مسعود : إنا صعب علينا
حفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن
ويصعب عليهم العمل به ) [19] .
4 - قال الحسن البصري : ( إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم
بتأويله ، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه ، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن
أحدهم ليقول : لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله ! - أسقطه كله
ما يُرى القرآن له في خلق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في
نَفَسٍ ! والله ! ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا ؟ لا كثَّر الله في الناس أمثالهم ) [20] .
5 - وقال الحسن أيضاً : ( نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به ؛ فاتخذوا تلاوته
عملاً [21] . أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به ) .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن الورد يقول لأصحاب الحديث : ( يا قوم ! إنكم
كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن ) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة
أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه .
7 - عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : ( لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً . أو قال : أنثره نثراً ) [23] .
8 - قال ابن القيم : ( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته ؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها
وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما ، وتتل في يده مفاتيح كنوز
السعادة والعلوم النافعة ، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه ، وتريه صورة الدنيا والآخرة
والجنة والنار في قلبه ، وتحضره بين الأمم ، وتريه أيام الله فيهم ، وتبصره مواقع
العبر ، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما
يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته ، وتعرفه النفس وصفاتها
ومفسدات الأعمال ومصححاتها ، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم
وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة .
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها ، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها ، وتميز
له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم ، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به
بين الهدى والضلال ، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً
فيصير في شأن والناس في شأن آخر ؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه
بالوعد الجميل ، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ، وتهديه في ظلم الآراء
والمذاهب إلى سواء السبيل ، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل ، وتبصره
بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها ؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل ، وتناديه
كلما فترت عزماته : تقدمَ الركبُ ، وفاتك الدليل ، فاللحاقَ اللحاقَ ، والرحيلَ
الرحيلَ ) .
فاعتصم بالله واستعن به وقل : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) [24] .
وحتى نتدبر القرآن فعلينا :
1- مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة
وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن
والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه .
2- التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع ، وألا يكون همه نهاية السورة .
3- الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة .
4- النظرة التفصيلية في سياق الآية : تركيبها - معناها - نزولها - غريبها- دلالاتها .
5- ملاحظة البعد الواقعي للآية ؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته
وواقعه ، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به .
6- العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها .
7- الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية .
8- النظرة الكلية الشاملة للقرآن .
9- الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن .
10- الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له .
11- معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه .
12- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة .
13- العودة المتجددة للآيات ، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة ؛
فالمعاني تتجدد .
14- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة .
15- التمكن من أساسيات علوم التفسير .
16- القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب : (القواعد
الحسان لتفسير القرآن) للسعدي ، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي ،
وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني ،
وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب [25] .